السبت، 12 يناير 2013

الشهيد الصغير


مَهْ يا حُسَيْنُ رَحَلْتَ قَبْلَ إِيابي


وَقَهَرْتَني في جِيئَتي وَذَهابي

وَتَرَكْتَني وَلْهانَ دُونَ تَعَقُّلٍ


حَظِّي مِنَ التَّفْكيرِ قَيْضُ سَرابِ

ماذا دَهاكَ بُنَيَّ يَوْمَ تَرَكْتَني


نَهْبَ الهَواجِسِ، ضائقاً بِثِيابي

رُوحاهُ ما هذا التَّسَرُّعُ وَالجَفا


هَلْ ذا جَزاءُ الحِبِّ لِلأَحْبابِ

وَإذا ظَنَنْتَ أَباكَ طَوْداً شامِخاً


ماذا عَنِ الإِخْوانِ والأَتْرابِ

ماذا عَنِ الأُمِّ الرَّؤومِ فُؤادُها


قَدْ غادَرَ الإحْناءَ قَبْلَ عِتابِ

ما باتَ فيها للرَّجاحَةِ مَوْضِعٌ


لَوْلا تَأسِّيها بِفَرْطِ مُصابِ

آهاتُها في اللّيلِ تُوقِظُ نائماً


وَدُموعُها حَفِلَتْ بِكُلِّ جَوابِ

لا يا حُسَيْنُ فَقَد حَيِيتَ مُؤمَّلاً


وَدَفَنْتَ آمالي بِقَعْرِ تُرابِ

يا تارِكي بَعْدَ المَطامِحِ وَالمُنى


مِزَعَ النِّصالِ عَلى كَثِيبِ عَدابِ[1]

يا مانِحي بُؤسَ الحَياةِ وَشؤمَها


يا واهِبي غُصَصَ النَّوى المُرْتابِ

أَنْفَذْتَ رُمْحَكَ يا صَغيريَ في الحَشا


وَنَصَبْتَهُ في القَلْبِ فَوْقَ صُبابِ[2]

أَنا يا حُسَيْنُ قَتيلُ إصْبَعِكَ التي


لَعِبَتْ بِكُلِّ عُقُولِنا بِسُبابِ

وَصُرِعْتَ، لا بَلْ قَدْ صَرَعْتَ لِوالِدٍ 


صَعْبِ النِّزالِ، فَعاد ظِلَّ عَدابِ[3]

أَنا يا حُسَيْنُ صَريعُ نورِكَ قَدْ ثَوى


في الرَّمْسِ لا يَرْنو إِلى الطُّلاّبِ

يا أيُّها القَمَرُ الذي وَسَدْتُهُ


جَوْفَ الثَّرى يَبْكيكَ كُلُّ صِحابِ

يا أَيُّها القَمَرُ الذي صَنَفْتُهُ


بِحَدائِقِ الزَّهْراءِ مِثْلَ كِتابِ

يا أَيُّها القَمَرُ الذي أَوْدَعْتُهُ


قُرْبَ الجُنَيْدِ ذَخِيرَةً لإيابي[4]

هَلاّ يَعُودُ إليَّ طَيْفُكَ في الرُّؤى


فَيُعيدُ في الأَحْلامِ رَجْعَ جَوابي

هلاّ تَرَفْرِفُ في دياري بُلْبُلاً


تَشْدو لَنا في لَثْغَةِ الإِطْرابِ[5]

أَوَلَسْتَ تَعْرِفُ يا حُسَيْنُ دِيارَنا


وَتَرى نَواظِرَنا بِلا أَهْدابِ

أَيَهُونُ يا وَلَدي عَلَيْكَ مُصابُنا


وَقُلُوبُنا في غُصَّةٍ وَعَذابِ

ماذا نَقُولُ لِمَنْ يُسائِلُ عَنْكُمُ


مِنْ صَحْبِنا الأَحْبابِ وَالغُيّابِ

أَنَقُولُ قَدْ نَحَرَ الحُسَيْنُ حِصانَهُ


فَكبا بِهِ في ثَغْرَةٍ وَعِتابِ

أَنَقُولُ قَدْ كَرِهَ الحُسَيْنُ حَياتَنا


بِشَتاتِها، وَبِذُلِّها العَيَّابِ

أَنَقُولُ قَدْ سَئِمَ الحُسَيْنُ صَلاحَنا


مِمَّا بِنا مِنْ غَفْلَةٍ وَكِذابِ

أَنَقُولُ لِلْسُؤْلِ الكَرامِ رُوَيْدَكُمْ


هذا الحُسَيْنُ يَعُودُ بَعْدَ غِيابِ

هَيْهاتَ يا وَلَدي فَقَدْ شَطَّ النَّوى


لا لَيْسَ قَبْلَ البَعْثِ رَجْعُ مَآبِ

لا يا حَبيبي لَنْ تَعودَ فَدارُنا


دارُ الغَرُورِ الطّائِشِ الهَيّابِ

لا يا حَبيبي لَنْ تَعودَ فَعَيْشُكُمْ


بَيْنَ الرَّسُولِ وَصَفْوَةِ الأَصْحابِ

في حُضْنِ فاطِمَةَ البَتولِ مُدَلَّلاً


تَلْهو وَتَخْطُرُ دُونَما حُجّابِ[6]

وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ يا حَبيبي لَيْلَةً


في رَوْضَةٍ تَلْهو مَعَ الأَطْيابِ[7]

وَعَلَيْكَ مِنْ حُلَلِ الكَرامَةِ وَالرِّضا


بِيضُ الثِّيابِ بِياقَةِ العُنّابِ

قُلْتُ: الدُّمُقْس أَوِ الدُّمُسْتُقُ ثَوْبُهُ


إِسْتَبْرَقٌ يَزْهو عَلى جُلْبابِ

تَلْهو وَحِيداً يا حُسَيْنُ بِرَوْضَةٍ


وَكَما حَيِيتَ مُبايِنَ الأَتْرابِ

إِنْ كُنْتَ يا قَمَري فَريدَ صِغارِنا


بِذَكائِهِ، وَجَمالِهِ، وَطِلابِ

أِوْ كُانَ هذا في ضميري وَحْدَهُ


فَهُوَ الذي يُحْيي صُنوفَ عَذابِ

مَنْ كانَ يَحْسَبُ سَلْوَةً تَجْتاحُنا


بَعْدَ الحُسَيْنِ، فَخائِبُ الحُسّابِ

ما زالَ مَقْتَلُ جَدِّهِ في الطَّفِّ كَمْ


يُذْكي الأَسى وَالحُزْنَ لِلأَهْدابِ[8]

وَيَظَلُّ مَقْتَلُكَ الصَّغيرُ بِضامِري


يَتَزاحَمانِ عَلى أَسىً وَسِلابِ

جَدِّي الحُسَيْنُ مَنارُ كُلِّ مُجاهِدٍ


وَصَغيريَ المَقْتولُ سَيْفُ تَبابي

حَرَقَ المَراكِبَ كُلَّها في غَفْلَةٍ


وَمَرافِئي قَفِرَتْ مِنَ الأُيّابِ

وَمُصِيبةٌ جَلَلٌ، وَكَمْ في عِتْرَتي


مِنْ مَصْرَعٍ جَلَلٍ وَقَتْلِ شَبابِ[9]





[1]  كثيب عداب: الرمل الناعم الرقيق
[2]  صباب: الدم
[3]  عداب: فارس (ويلاحظ استخدام الشيخ لجميع معاني اسمه في هذه القصيدة)
[4]  دفن رحمه الله في مقبرة الجنيد البغدادي وسط مدينة بغداد، وهذه المقبرة روضة غناء ما زارها امرؤ إلا عاد مرتاح البال صافي السريرة، ففيها فضلاً عن الجنيد جمع من متصوفة بغداد القدماء منهم السري السقطي ومعروف الكرخي وغيرهم كثير.
[5]  كان في لسانه لثغة الطفولة بحرف السين وطالما كان الشيخ يذكرها له مداعبة وحناناً
[6]  كان الشيخ إذ يودع ولده يقول (اذهب يا حبيبي بأمان لحضن جدتك البتول فاطمة)
[7]  هذه الأبيات وما يليها حكاية رؤيا رآها الشيخ بعد وفاة ولده، إذ رأى ولده يلهو وحيداً على قنطرة في جنة جميلة ويلبس كنزة أنيقة فيجد نفسه يقول إن الدمقس أو الدمستق ثوبه فلما قص الرؤيا لم يكن يعلم معنى هاتين الكلمتين
[8]  هكذا الشيخ في كل شعره لا يفتأ يعود لتاريخه وعلمه وحكمته، بل هو في أصعب اللحظات في حياته هو ذاك المربي الذي يستفيد من كل لحظة ليعطي ما اكتسب من علم وحكمة لمن حوله، ففي تلك اللحظات التي كان يودع فيها فلذة كبده كان يشير لطلابه ويعلمهم كيف يدفنون الميت وكيف يصنعون ويوجههم إلى السنة في كل حركة وسكنة، فيذرف دمعة تارة ويعطي النصيحة تارة أخرى، وها هو ذا يعود لقصة جده الحسين ابن علي ويصور ما يجول في النفس من ألم وحزن يوازي إن لن يفق حزنه على ولده
[9]  يذكر الشيخ أنه فارق من أهل بيته وعشيرته ما يقرب من أربعين، فقد معظمهم في أحداث حماة، هذا فضلاً عن الأحباب والأصحاب وهم كثر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق